عدد الزيارات: 4.8K

القناع الزائف


إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
آخر تحديث: 20/03/2019 هـ 19-01-1438

عندما تفقد الحضارة الإنسانية إنسانيتها.. ماذا يبقى لها؟!

عندما تعلو قيم القوة المادية.. وتختفي قيم القوة الروحية.. فأين الإنسان؟!

عبر تاريخ البشرية تعاقبت الحضارات..

درس واحد خرج به الإنسان عبر الحضارات كافة..

وبرغم ذلك يتعمّد بعضهم تجاهل الدرس..

درس واحد للإنسان يقول.. لن تجد السعادة إلا مع الله..

بطلة قصتنا إنسانة.. شديدة الإنسانية..

إنسانيتها هي التي أنجتها وقادتها إلى الهدى والإيمان..

بحثت عنه.. فبحث عنها..

مولدها كان في مدينة ليون الفرنسية.. ترعرعت في كنف أسرة كاثوليكية شديدة الثراء وعريقة الأصل.. جدها هو شاعر فرنسا الكبير "لامارتين" الذي طبقت شهرته الآفاق.. اتجهت إلى الكتابة منذ نعومة أظفارها.. فشل زيجتيها الاثنتين دفعها إلى التفرغ للكتابة والرسم.. صدمت بشدة في الحرب العالمية حينما اكتشفت وحشية الإنسان الأوروبي المسيحي وبشاعته الذي يرتدي مسوح الرهبان.. رحلت إلى الشرق فانبهرت بوجود حياة روحية لم تعرفها في بلادها.. دخلت الإسلام وأصبحت من دعاته ومناصريه.. إنها الكاتبة الفرنسية فلانتين دي سان بطلة هذه القصة.

تزوجت فلانتين في وقت باكر من مدرس في المرحلة الثانوية.. لم تكن سعيدة بزواجها لأن زوجها لم يكن ذلك الرجل الذي يستطيع أن يستوعب امرأة تتمتع بذكاء متفرد واطلاع واسع وطموح جامح.. على الرغم من حياتها الزوجية التي تفتقر إلى السعادة ظلت وفية لزوجها حتى توفي، بينما لم يحل زواجها المتعثر السابق ذكره دون أن تصبح كاتبة مشهورة يشار إليها بالبنان.

تزوجت بعد ذلك بأحد الوزراء الفرنسيين "شارل ديمون"، وظنت أنه سيكون الزواج الأمثل مقارنة بسابقه.. أصابتها الحسرة حينما اكتشفت بعد الزواج أن بريق الشهرة كان يخفي وراءه جوانب معتمة من زوجها الثاني.. عقب مرورها بقدر من المشاكل والمنغصات في حياتها الزوجية الثانية حصلت على الطلاق وتفرغت بعد ذلك للكتابة والرسم.

عندما قامت الحرب العالمية الأولى كشفت القناع الزائف عن الوجه الأوروبي البشع الذي كان يبدو لها فيما مضى وجه حمل وديع مسالم.. صدمت بشدة حينما شاهدت الناس يتحولون إلى ذئاب بشرية ضارية يتعاركون داخل مجتمع مادي لا يرحم، بل وسط غابة من الفوضى نظريتها المثلى المذهب الميكافيللي "الغاية تبرر الوسيلة" بينما قانونها الوحيد المستمد من الفكر الدارويني هو "البقاء للأقوى".

لم تحتمل روحها الشفيفة الحقيقة المرّة، فغادرت أوروبا إلى شمال أفريقيا تحديدًا إلى المغرب ومن ثم إلى مصر.. أعجبت فلانتين بطبيعة الحياة في موطنها الجديد.. وجدت الحياة الروحية التي لم تعرفها من قبل ولم تتذوق طعمها في بلادها.. اندهشت لمرأى أهل الشرق من المسلمين.. كانت تظنهم -كما وصفهم مواطنوها- مثالًا للتخلف، والهمجية والرجعية.. انبهرت بطبيعة الحياة الجديدة التي تسودها قيم التماسك والتعاطف، والتكافل المجتمعي، والمودة والتراحم، والتعاون على عمل الخير.. نعم من خلال أهل الشرق رأت الإسلام في صورته الحقيقية.. على العكس من الصورة الذهنية التي غرسها في عقلها بنو قومها منذ نعومة أظفارها.. عبرت عن ذلك بقولها:

 "لقد رأيت -ولأوّل مرة- الإسلام على حقيقته، وليس كما صورته لي الكنيسة والقساوسة.. رأيت المسلمين وهم ينطلقون إلى المساجد كلما انطلق صوت المؤذن للصلاة.. وعدت بذاكرتي إلى الوراء، إلى أيام طفولتي، حينما كنت أذهب قسرًا إلى الكنيسة لأستمع إلى ترهات القساوسة، في حين تتبادل الفتيات والسيدات مع الشباب نظرات لا تخفى وقاحتها على أحد".

ثم تستطرد قائلة: "لقد عرفت الفرق بين ما يدعو إليه الغرب المادي من مثالية زائفة لا تطبق، وما يمارسه الشرق الإسلامي من سلوكيات حية تترجم فيها قيم الإسلام ومبادئه.. فأيقنت أن العبرة تعود إلى الحافز الروحي الذي يتحكّم في النفوس ويوجه الإنسان إلى الخير أو الشر.. لقد قارنت بين ما شاهدته من قيم الإسلام وما لقنوه لي من تعاليم المسيحية، فأدركت بحسي عظمة الإسلام، وكونه الدين الوحيد الذي ينظم علاقة العبد بربه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، دون حاجة إلى وساطة القساوسة، أو طلاسم الرهبان وأكاذيبهم". 

بالإضافة إلى ما سبق ذكره كانت هناك أسباب أخرى حببت الإسلام إلى "فلانتين".. من بين هذه الأسباب تحطم الصورة النرجسية المثالية للإنسان الأوروبي في داخلها.. تلك الصورة الزائفة التي تصور الإنسان الأوروبي المسيحي كملاك حارس لحقوق الإنسان، وكحارس أمين لحماية القيم النبيلة، وكراعٍ مخلص للإنسانية المعذبة من آلامها الدفينة.. نعم تفاجأت برؤية الوجه الأوروبي الحقيقي البشع متمثلًا فيما كان يفعله مواطنوها الفرنسيون بالشعوب الضعيفة المسلوبة الإرادة التي تعيش في بعض الدول العربية الإسلامية.. أيضًا رأت وجه أوروبا المسيحية القبيح فيما كان يمارسه الإيطاليون من وحشية مريرة في ليبيا.. كما رأته فيما قام به الإنجليز من مذابح في دنشواي بمصر.. وعن كل ذلك تقول الكاتبة فلانتين:

"لقد تحطمت الصورة المثالية للإنسان الأوروبي في داخلي بعد أن أدركت كيف يستغل قومي المسيحية واسم المسيح -عليه السلام- من أجل غايات ومصالح شخصية، ولذلك لم يطل بي الوقت لأعلن كفري بما يدينون به، وأشهر إسلامي بعد أن أدركت أنه دين الحق".

وما أن دخلت فلانتين الإسلام حتى نذرت حياتها للدفاع عنه وللدعوة إليه إذ وجدت فيه روحانية غريبة لم تتذوق حلاوتها منذ أن ولدت، وهذا ما دفعها إلى أن تطلق على نفسها اسم "روحية نور الدين".

أوقفت "روحية" مهاراتها في مجال الكتابة للدفاع عن حرية الشعوب العربية المسلمة ووظفتها للتنديد بالاستعمار الفرنسي والبريطاني البغيضين، ما دفع سلطات الاحتلال الإنجليزي إلى المطالبة بطردها من مصر، غير أن آمال المحتلين تحطمت على صخور شهامة رجال مصر الوطنيين، ساعدها على ذلك تعرفها الرموز الوطنية والفكرية في مصر وفي غيرها من البلاد العربية.

ولإذكاء الروح الوطنية في نفوس العرب والمسلمين لمقاومة الاحتلال خصصت الكاتبة "روحية" صفحات في مجلتها "فوتيكس" للتعريف بالوطنيين العرب، وتقديم نماذج لقادة المسلمين الأكفاء، كالملك عبدالعزيز -رحمه الله- الذي أكدت أنه نموذج للقائد العربي المسلم المؤهل لقيادة العرب والمسلمين على هدى كتاب الله الكريم وسنة نبيه الأمين -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.

ليس هذا فحسب بل استطاعت الكاتبة روحية أن تفضح الاحتلال الفرنسي بتسليطها الضوء على ممارساته الوحشية التي نفذها ضد الشعب العربي السوري وذلك في كتابها "الحقيقة عن سورية".

وكنتيجة طبيعية لمواقفها الشجاعة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين شنت الحرب على روحية حتى وصل بها الأمر إلى إغلاق مجلتها، فاعتكفت في منزلها بأحد أحياء القاهرة تتعبد الله سبحانه وتعالى في وحدة اختارتها بنفسها لكي تكون في معية الله تعالى بعد أن رفضت العديد من عروض الزواج. وظلت هذه حالها إلى أن انتقلت إلى رحاب الله تعالى عن عمر يناهز 78 عامًا حافل بالعطاء الصادق لخدمة الإسلام والمسلمين.

انتقل جسد روحية نور الدين إلى الدار العامرة ولكن ظلت ذكراها باقية في قلوب من عاصروها، وحية في عقول كل الأجيال اللاحقة وذلك من خلال أعمالها الكبيرة وكتاباتها الجليلة التي دافعت عبرها عن الإسلام والمسلمين دون أن تخشى في قول الحق لومة لائم ودون أن تندم على نعيم دنيوي زائل عاشته في النصف الأول من عمرها ثم ركلته عندما أنار الله تعالى قلبها وعقلها بنور الإيمان..

أدركت روحية أن حضارة تدمر وتخرب.. ليست حضارة تليق بالإنسان..

أدركت أن الدين الذي لا يغرس في الإنسان الرحمة.. ليس دين الله..

أدركت أن الروح النقية لا تحيا بلا خالقها..

فهل أدركتم أنتم؟!!

اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.

-------------

المصادر:

الألفي، أسامة (2005)؛ لماذا أسلموا؟ القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي.

عبد الصمد، محمد كامل (1995)؛ الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء؛ ثلاثة أجزاء؛ القاهرة: الدار المصرية اللبنانية للنشر.    

فارس، نايف منير (2010)؛ علماء ومشاهير أسلموا؛ الكويت: دار ابن حزم.

 


تعليقات (
0
)

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وإنما هي وجهات نظر أصحابها فقط.