عدد الزيارات: 2.3K

الترجمة الفريدة


إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
آخر تحديث: 20/03/2019 هـ 29-03-1439

اختار الله اللغة العربية وعاءً لكلمات القرآن..

ما أكسب العربية شرفًا لم يدانه ولن يدانيه شرف لأي لغة أخرى..

إلا أنه ليس البشر جميعهم يتحدثون اللغة العربية..

لذا كانت ترجمات القرآن محاولة طيبة لتقريب معاني القرآن إلى غير العرب..

فقط التقريب.. فالإحاطة بالمعنى الدقيق لا يستطيعه بشر.. لأنه كلام الله..

وبرغم ذلك.. تحمل ترجمات القرآن بين طياتها نور وشرف الانتساب إلى القرآن..

إلا أن واحدة من ابتلاءات الإسلام والمسلمين العظيمة هي الترجمة المسمومة وغير الأمينة لمعاني القرآن الكريم من قبل معظم المستشرقين الذين يكنون العداوة للإسلام، أو في أحسن الأحوال من قبل بعض أولئك الذين يفسدون هذه المعاني دون قصد منهم ونتيجة لجهل مركب.

في وسط هذا الواقع المؤلم البعيد عن العدل قيض الله للإسلام من يترجم معاني كتابه الكريم ترجمة صحيحة لا تدليس فيها ولا تحريف عبر عالم مسلم أخرجه الله برحمته من ظلمات الضلال إلى نور الإسلام.. إنه محمد مارمادوك ابن القس البريطاني الشهير تشارلز بكثال أحد القساوسة التابعين لكنيسة كانتربري.

ولد مارمادوك لأسرة نصرانية متشدّدة، وقد حرص والده على تربيته تربية نصرانية صارمة حتى يصبح مؤهلًا للدفاع عن النصرانية وقادرًا على محاربة الإسلام.. عندما بلغ النصراني الصغير سن المدرسة ألحقه والده بذات المدرسة الشهيرة التي تخرج فيها السياسي البريطاني الشهير السير ونستون تشرشل الذي ربطته به علاقة قوية.

وعندما انتهى مارمادوك من دراسته الثانوية وجد فرصة للالتحاق بجامعة أكسفورد لتلقي تعليمه الجامعي، ولكن شخصية مارمادوك المتفردة على غيرها والمتمردة على المنطق الظاهري جعلته يشيح بوجهه عن جامعة أكسفورد حلم الكثيرين، ويقبل دعوة عرضت عليه من صديقه دولنج الموظف بالسفارة البريطانية لزيارة فلسطين.

عشق مارمادوك لتعلم اللغات دفعه إلى تعلم اللغتين الفرنسية والإيطالية وإجادتهما إلى جانب لغته الأم الإنجليزية.. عقب ذلك أكمل بطل قصتنا العقد اللغوي بتعلمه العربية التي استنفدت منه سنوات طويلة قضاها متنقلًا ما بين فلسطين ومصر وسوريا.

تنقله بين الدول العربية أضاف له أمرًا أكثر أهمية من تعلم العربية إذ مكنه من ملاحظة أهل تلك الدول وهم يمارسون شعائر دينهم الإسلامي.. تملكته حينها الرغبة في التعرف إلى الإسلام الذي لم يكن يعرف عنه سوى النزر اليسير.. أعانه على تنفيذ رغبته دروس اللغة العربية التي كان يتلقاها من إمام المسجد الأقصى في القدس الشريف.. موقف باهر من إمام المسجد الأقصى زاد من قناعة مارمادوك بالإسلام!! حدث ذلك عندما صارح الأخير الأول برغبته في اعتناق الإسلام.. إذ طلب الإمام من بكثال التروي وبحث الأمر مع والديه خشية أن تكون رغبته في اعتناق الإسلام مجرد فورة شباب عاطفية.

تفاجأ مارمادوك كثيرًا من نصيحة الإمام إذ طالما سمع أن المسلمين يلهثون ويكدون في سبيل إقناع الآخرين بدخول الإسلام، هذا فضلًا عما كان يعرفه من طرق ملتوية يستخدمها بنو جلدته في عمليات التنصير.

ضاعفت نصيحة إمام المسجد الأقصى رغبة مارمادوك في دراسة الإسلام، فانكب على دراسة الكتب الإسلامية في شغف غير محدود.

سافر مارمادوك إلى تركيا حيث أسس علاقات طيبة مع مجموعة من المسلمين الأتراك.. بهرته الروح الإسلامية الطيبة التي رآها تسري وتنساب وسط المسلمين الأتراك فعقد العزم على دخول الإسلام.. أخبر صديقه التركي طلعت باشا بنيّته الصادقة في إشهار إسلامه، بيد أن الأخير نصحه بضرورة أن يقدم على خطوته تلك في لندن حتى لا يدخل تركيا في مشكلات دولية تخشاها بشدة.

عملًا بنصيحة صديقه طلعت باشا ووسط حيرة الجميع أشهر مارمادوك إسلامه فور وصوله إلى لندن مع بداية إرهاصات الحرب العالمية الأولى، وتسمى بأفضل الأسماء حيث أطلق على نفسه اسم محمد تيمنًا بالرسول –صلى الله عليه وسلّم-.

وما أن أشهر محمد مارمادوك إسلامه حتى تفرغ للدعوة الإسلامية؛ وبجانب إمامته المصلين في صلاة الجمعة والعيدين والتراويح، تولى مسؤولية الإعداد لطباعة مجلة Islamic Review إحدى أشهر المجلات الإسلامية في لندن، كما تعاون مع "معهد الإعلام الإسلامي" الذي تتمثل رسالته في التعريف بقيم الإسلام وشرح مبادئه وقيمه النبيلة.

في عام 1920م غادر محمد مارمادوك بريطانيا إلى الهند، استجابة لدعوة من العالم المسلم مولاي عمر سبحاني، حيث عمل هناك مديرًا لمدرسة قرآنية في بومباي، وهو منصب ظل فيه حتى عام 1924م إذ تم استدعاؤه إلى حيدر آباد، حيث عين مديرًا لمدرسة شادرغوث العليا.. وظف محمد مارمادوك وجوده هناك في خدمة الدعوة الإسلامية حيث أصدر مجلة الثقافة الإسلامية Islamic Culture باللغة الإنجليزية والتي كان يهدف من ورائها إلى تعريف العالم غير المسلم بثقافة الإسلام والمسلمين، كما أسهم في حل العديد من مشكلات المسلمين خاصة مسلمي الهند وتركيا، بيد أن أبرز أعماله تتمثل في ترجمته لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية التي بدأها في حيدر آباد، واستكملها في مصر بالتعاون مع بعض علماء الأزهر، وهي ترجمة أمينة لمعاني كتاب الله تعالى كان يهدف من ورائها إلى إيصال معاني القرآن الصحيحة إلى القارئ الأوروبي.. ظهرت هذه الترجمة للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1930، وأشيد بها في ملحق التايمز الأدبي، ووصفت بأنها إنجاز أدبي بلا نظير.. ومما يحمد لهذه الترجمة أيضًا أنها أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم يكتبها بالإنجليزية مسلم، وتتضح أهميتها بصورة أكبر حينما نستصحب حقيقة أن كل نظيراتها السابقة كانت من صنع المستشرقين أو القساوسة الذين كان التحريف العمد يمثل شغلهم الشاغل.

وإضافة إلى ما سبق تجدر الإشارة إلى أن إلمام محمد مارمادوك بكثال باللغة العربية ساعده كثيرًا على إيجاد أقرب المعاني للنص القرآني، كما أسهمت ميوله الأدبية والثقافية في إكساب ترجمته لغة إبداعية تؤثر في القارئ، ولهذا السبب صدرت ترجماته في أكثر من طبعة كما وجدت قبولًا واسعًا ورواجًا كبيرًا في أوروبا وأمريكا.

أكثر من هذا تمثل ترجمات بكثال خير معين لترجمات مماثلة أتت بعدها قام بها علماء مسلمون إذ استفاد أولئك من هذه التجربة الرائدة الأمر الذي أسهم في إنجاح ترجماتهم وأكسبها الرضا والقبول.

في عام 1935م عاد محمد مارمادوك إلى موطنه بريطانيا ليستقر في لندن، ويمارس نشاطه الدعوي دون التزام بمنصب، فعمل بالوعظ الديني واعتلى المنابر وأَمَّ الناس في الصلوات.. ومما يجدر ذكره هنا أن مجلة الثقافة الإسلامية Islamic Culture انتشرت في لندن ولاقت إقبالًا من قبل غير المسلمين الراغبين في التعرف إلى ثقافة الإسلام وحضارته، كما تجدر الإشارة إلى أن بكثال أنشأ لجنة خاصة للدعوة الإسلامية حرص عبرها وعبر جميع أنشطته على الإسهام في مد جسر ثقافي بين أوروبا والعالم الإسلامي، وقد أسهم عبر محاضراته في هداية الكثيرين إلى الصراط المستقيم، ساعده على ذلك الشخصية الفذة المؤثرة التي يتمتع بها، فضلًا عن لجوئه إلى الحوار الهادئ الذي يستند إلى المنطق السليم والأدلة القوية.

في صبيحة اليوم التاسع عشر من مايو 1936م انتقل محمد مارمادوك بكثال إلى رحاب الله تعالى بعد أن فارق الحياة إثر نوبة ألمت بقلبه المعمور بحب القرآن والإسلام، وكان آخر ما خطه بيده حسب شهادة زوجته قوله تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112) البقرة.

دفن هذا العالم الفذ في مقابر المسلمين في لندن وهو لم يتجاوز الثامنة والخمسين من عمره.. لقد رحل عن هذه الدنيا الفانية بجسده، بينما بقيت روحه الطاهرة بيننا وذكراه العطرة التي خلدتها أعماله العظيمة التي أفاد عبرها ولا يزال الملايين من المسلمين وغير المسلمين في أوروبا وفي العديد من قارات العالم..

لذا.. يحق للمرء أن يتساءل.. ألم يأن لمن يربون أبناءهم من غير المسلمين على كراهية الإسلام.. وعلى أن يكونوا جنودًا في جيوش تشويه الإسلام.. أن يدركوا حجم الوهم الذي يعيشون فيه؟!!..

أن يدركوا ضعف البشرية جمعاء في سبيل تحقيق ذلك الهدف الموهوم؟!!..

أيها السادة.. إنه دين الله الذي لا يقبل سواه..

اسألوا الله الهداية.. فبالله نهتدي إلى الله.

------------------------

المصادر:

الموسوعة الحرة (محمد مارمادوك بكثال): https://ar.wikipedia.org/wiki

عبد الصمد، محمد كامل (1995)؛ الجانب الخفي وراء إسلام هؤلاء؛ ثلاثة أجزاء؛ القاهرة: الدار المصرية اللبنانية للنشر.    

ماهر الشيال (17 ديسمبر 2016)؛ "محمد مارمادوك.. مترجم القرآن.. المتيم بالشرق"؛ موقع البديل: https://elbadil.com

British Muslim Heritage. Marmaduke Pickthall: a brief biography. www.masud.co.uk

 


تعليقات (
0
)

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وإنما هي وجهات نظر أصحابها فقط.